الثلاثاء، 19 يوليو 2011

(٤) ظلان..وامرأتان ...

حسناً...كم بلغت ُ من العمر وكم بلغتِ أنت حتى تتعقد العلاقة بيننا إلى هذه الدرجة؟
هل تتناقص المسافة بيننا كلما تقدم العمر وأخذك النضج خطوات حثيثة للأمام؟ أم أن هذه المسافة تتباعد لإختلاف الوجهات والسبل وطرق السفر؟
أتتقطع تلك الحبال المتينة بين الأم وابنتها حين تسير بهما مراكب الحياة في بحر لجي الموج؟ أتتشابه شموسهما؟ تتطابق مواقيت ساعاتهما الرملية؟ وتتشابك ظلالهما..؟أم أن توقيت العمر يجعل لكل منهما زوالاً وغروباً؟
اليوم ..وبعد أن اختلفت وجهات نظرنا ..وبعد أن رفعتِ صوتك في نبرة حادة - تفاجئتِ حتى أنت منها -لتقنعيني بوجهة نظرك أغلقتُ الموضوع على عجل ..ثم تواريتُ في غرفتي و......بكيت..!
أجل بكيت...!
أتذكرين حين بكيت أمامك لأول مرة وسألتني : هل تبكي الأمهات..ثم رسمت لي قوس مطر ملون وغنيت لي أغنية جميلة أشرقت لها ضحكتي من وسط دموعي؟
يومها لم أخجل ولم أواري دموعي عنك..ولم أحزن لأنك اكتشفت أن الأمهات الكبيرات جداً بالنسبة للطفلات الصغيرات جداً يبكين أيضاً..
لكنني اليوم هرعت إلى غرفتي خجلاً كي أخبئ عنك دموعي..!
دموعي التي لم يكن يخطر على بالها أن ابنتها الصغيرة التي كانت تزعجها ببكائها وعويلها يوماً ما ستكون سبباً في استدرارها مالحة حارقة..!
ياااه..
كم تتعدد أسباب البكاء كلما كبرنا ...
وكم هي دموعنا لا تنتهي كحبات الرمال في ساعات حياتنا الرملية..
.
.
.عدت إلي أتحسس عيني..
أن أبكي بسببك؟ وأنا القوية التي أملك تلك النظرة الصارمة أمام طالباتي؟
أن أبكي بسببك؟ وأنا التي غالباً ما تمر علي مشاكل العمل ومطبات الحياة مروراً عابراً وخارجياً فلا أسمح لها أن تمكث في أعماقي أكثر مما يجب.. 
أن أبكي بسببك؟ وأنا التي بلغت من العمر حداً يجعل البكاء خادشاً للوجاهة والحكمة عابثاً بمسبحة السنين الطويلة؟
أن أبكي بسببك؟ وأنت التي إلى حين قريب لا زلت أذكره كنت طفلتي الصغيرة التي بالكاد تصل إلى وسطي ؟


مسحت دموعي وقلت في نفسي: هذا لا يليق..فلا أسوء من أم تستدر عطف أبنائها وتعزف على أوتار مشاعرهم بدموعها التي يمكن لها بقليل من جهد - أو ربما بالكثير منه- أن تكتمها وتبتلعها وتغص بها وحدها..


حسناً..ينتابني السؤال مرة أخرى: لماذا بكيت؟
الأنني صرت أنظر إليك أفقياً؟
الأنه صار لك صوت وعزف منفرد لا يمتد ولا يتداخل مع أوتار صوتي وجوقة ترانيمي؟
الأنه صار لك رأي يقع على الشط الآخر مني؟
الأن توقيتي ما زال غروبي في حين أن توقيتك صار زوالياً؟
أم لأنني لا أعرف إلا أن أكون أماً لطفلة تلعب معي في الشمس فنتضاحك ونتحايل كي نخلط ظلينا معاً فلا تدرك الشمس أننا اثنتان..
.
.
سأكفكف دموعي وسأمشي مبتعدة أنا وظلي..وسأمنحك كل المساحة كي تتبختري أمام الشمس وتتباهي بأنك امرأة.. 
امرأة لها ظل كامل ..ممتد ..مغرور.. يلاحقها دون أن تلاحق هي فلول أمها..





أنا آسفة..
لا..
أنا منزعجة..
لا..بل أنا..مرتبكة..
تعرفين أنني لم أقصد أن تصل الأمور بيننا إلى هذا الحد ..والشد..والصوت..والدموع..
هل رأيتُ دمعتك يا أمي؟
لم تكن دمعة ..كانت لمعة في عينيك فقط..
أليس هذا صحيحاً؟
أعرف أن الأمهات يبكين لكنهن حتماً لا يبكين من بناتهن..!
تلك كانت دموعي أنا..
وإن لم أذرفها أمامك، لكن في غرفتي وحدي تواريت ودفنت رأسي في المخدة وذرفت دموعاً وكلاماً..
ماذا أفعل؟ وأنا لم أقصد جرحك أو عدم الإنصات لما تقولين أو الأخذ برأيك..
أنا فقط أمارس...الحياة..كما أراها..وهي أيضاً تتحرش بي وتمارسني كما تشتهي..
لماذا تعقدين الأمور علي بدلاً من أن تجعلينها أسهل كما هو الحال في كل حياتي؟
ألم أتعلم منك أن يكون لي رأي مستقل دائماً، فلماذا الآن تحاسبينني على ذلك؟
أتذكرين حين كنت في الرابعة عشر وسألتك ذات يوم عن رأيك في أن أذهب في رحلة عمرة إلى مكة مع صديقاتي..
ولأنني كنت أحياناً في ذلك العمر أجرب الطرق التي تؤدي إلى أكبر مساحة من السلم بيننا لم أخبرك بماذا أريد فقط سألتك أنت عن رأيك وقلت لك: قولي لي إن كنت تريدينني أن أذهب..
نظرتِ إلي بدهشة وقلت: أنت تريدين الذهاب؟
فرددت عليك: رأيي ليس مهماً، إذا أردتني أن أذهب فسأذهب..
نظرت إلي مرة أخرى بتوجس وقلت لي: أهذه شخصيتك الجديدة مثلاً؟ لا تناسبك أبداً يا عزيزتي، تعرفين منذ البداية أنني لا أمانع ذهابك إلى مكة، لذا يظل الرأي لك إن أردت الذهاب..!
أصررت عليك أن تخبريني إن أردتني أن أذهب، لكنك غرقت في ضحكك وقلت لي: أعرف أنك لن تأخذي برأيي  إلا إذا وافق رأيك...
لماذا الآن إذن تستغربين وتغضبين ولا تتقبلين أن يكون لي رأي ونظرة تخالف ما ترينه أنت؟
ألم أكبر بما يكفي كي أمضي في الحياة بدون وجه أرفع إليه رأسي مستفهمة، وظهر ألوذ به خائفة، وظل أحتمي به من حرارة الشمس الحارقة؟
ألا تشعرين أنني غير مضطرة دائماً أن ألبس قلادة تجربة الكبار وحكمتهم بدلاً من قرطي التجربة والدهشة ؟
ألا ترين أن الوقت قد حان كي أعبر الشارع إلى الضفة الأخرى من الحياة دون أن أمسك بيد أحد؟
ألا تدركين يا أمي الفرق بين اللون الكحلي الرصين والفوشي الضاحك؟ بين محمد عبده وجاستن بيبر؟ بين أن أمشي كملكة على السجاد الأحمر و أرقص كغجرية على الشواطئ الرملية؟
.
.
.
.
ماما...أنا أحبك والله...
وحين كنا صغاراً تعلمنا أن الحب هو "أن نسمع الكلام"..
أنا كبرت الآن..والحب صار لدي حباً غير مشروط ولا مقيد..
سأظل أحبك حتى وإن لم أسمع الكلام...
حتى وإن ذهبت يساراً في حين كنت تتوقعين مني أن أسلك اليمين..
.
.
حتى وإن كان ظلي يقف وحده وسط حقل الحياة وتحت شمسها اللاهبة دون أن يظلل عليه ويخفي سواده ظل آخر أحبه ويحبني....

الجمعة، 25 مارس 2011

(٣) بياض الثلج وحمرة الورد..

كنتُ غارقة في كتابة تقرير يخص العمل حين مررت من أمامي..ثم تراجعت و عدت إلي مرة أخرى تنظرين باهتمام ، وأمام وقوفك وتحديقك توقفت عما كنت أفعله، رفعت رأسي ونظرت إليك مستفهمة..فقلت لي: ماما ، ربما حان الوقت لتصبغي شعرك مرة ثانية..!
اتبعت ذلك بابتسمة حلوة وبجسد ألقيته على الأريكة بجواري في استرخاء.. قمت مسرعة..فصرخت: ماما ، أين تذهبين؟ جئت لأجلس معك..قلت لك: أصلي المغرب وأعود..!!!
دخلت إلى غرفتي وأغلقت الباب كطفلة فزعة تهرب من شيء ما..!
هذا الشيء يلاحقني أينما ذهبت..أينما اختبأت..أينما وليت وجهي..إنه حولي ومعي وأمامي في كل مكان..
إنه في صمت شعيرات بيضاء تسبح في بحر شعري الفاحم..إنه على ضفاف سنواتي الأربعين التي أغرقت مركبي..إنه في عمرك حين خلعت عنك طفولتك البرىئة وخلعت عني رداء الأم الأكثر براءة.. إنه في صوري القديمة الباهتة التي تبدو من جيل بعيد لا يمت للعصر الحاضر بصلة..

...
هل ألوم الصبغة الرديئة التي يختفي أثرها قبل أن ألحظ؟ أم ألوم تسارع تكنولوجيا العصر والتي جعلت من جيل السبعينات جيلاً من الزمن الضائع؟ ربما علي أن أعتب على السنوات التي نست طولها المفترض، وغدت تمر علينا تسابق الشهور والأيام...!
ربما ألومك أنت..!
أجل أنت..
ألم أخبرك ذات طفولة عذبة ألا تكبري..ألم تضحكي وتقولي لي: كيف لا أكبر؟
 لا أستطيع أن أتوقف؟
قلت لك: من يستطيع إذن؟ فقلت لي بحكمة سنواتك الست: لا أحد يقدر..!
احتضنتك وأنا أسمّي عليك وأقول في نفسي: معها حق..طالما أننا أحياء نتنفس..فلا أحد يقدر! 
ها أنا أتنفس إذن سنواتي الأربعين وشعيراتي البيضاء وذكرياتي الكثيرة بكل جزع ومشاعر مختلطة وحكمة مزيفة أحاول أن أتباهى بها..
.
.
لم يكن مرور السنوات يعنيني في شيء..بل- ويا للعجب- كان يمر يوم عيد ميلادي دون أن آبه به.لا هدية من حبيب، لا أمنية جميلة من صديق، ولا توقف من أي نوع، ولم يكن ذلك يزعجني فقد كنت مشغولة بكثير من الأشياء حتى أنني ذات عام أصبت بالحيرة هل أنا في السادسة والعشرين أم في الخامسة والعشرين..!
هل كان ذلك مهماً حقاً كما هو الآن؟ هل كنت أحرص على كريم الصباح والمساء وأراقب تغيرات جسدي بقلق وأبحلق في الخطوط الرقيقة التي ظهرت حول عيني وشفتي في المرآة محاولة إخفائها...؟
أنظري إليك..تلجين الحياة وتقفزين..وتحاولين أن تخطي بدلاً من الخطوة خطوتين..
تمهلي..تمهلي..لا تستعجلي ولا تزاحمينني في عمري ، الآن يراودك عمرك عن نفسك لكنه مستقبلاً سيأخذك علي حين غرة وستندمين حين تشعرين أن ثمة زقاق في عمرك لم تطئيه و "راح عليك"..
انظري..أنا أفسح لك مكانك في عمرينا وأحتفي بك فيه كما ينبغي..الفساتين القصيرة الملونة الضاحكة لك ولي كل ماهو أنيق وراق..أحمر الشفاه الفاقع لك ولي درجات البني والوردي الغامق..الجينز الضيق لك ولي الجينز الذي لا يظهر كثيراً من انحناءات جسدي...المروج ذات الورد الأحمر الفتان في عزّ الربيع لك..ولي البيوت التي كساها الثلج الأبيض في أمسيات الشتاء الهادئة..!
لست حزينة على ما ذهب فلم يفتني شيء لم أتجرعه ولكني جزعة من بدأ زحف هذا الأبيض! ..من كل هذا الكم من الذكريات ، والحكايات، والأيام والسنوات التي أنوء بها..
كيف أنظر للمستقبل ؟ كمسرح ستسدل أستاره بعد برهة..؟
وكيف تنظرين للمستقبل؟ كمسرح ستفتح أستاره بعد قليل...؟

تتغير المشاهد يا حلوتي .. يتغير النص والممثلين.. يتغير الجمهور والمصفقين.. إلا أن مواعيد العرض. ومرور العمر.. دائماً واحد..! 






أتذكرين يا ماما حين كنت صغيرة وحين كنت أريد أن أكبر عامين في العام؟
حسناً ،،علي أن أخبرك أن ذلك "الكبر " فاجئني جداً...بطريقة أربكتني..
منذ الثالثة عشرة صار علي أن أرتدي حمالة الصدر بشكل لا يقبل الجدال وكنت أخجل كثيراً حين تظهر سيورها من تحت ملابسي..
صار مقاس حذائي كمقاس حذائك مما كان يسبب لي كثيراً من إحراج ..فأتعنى أن لا أضع حذائي بجوار حذائك في أي مكان..فأنت أم وأنا ابنتك فكيف بالله يكون مقاسنا واحد؟؟!!
البلوزة التي كنت سعيدة بها للغاية صارت ضيقة بعد شهرين فقط من شرائي لها.. والجينز كنت أصر على شراء أكبر مقاس من قسم الأطفال رغم اختناقي حين أرتديه ورغم أنك اقترحت علي عدة مرات أن تشتري لي أصغر مقاس من القسم النسائي..
لم أكن أكبر يا أمي..بل كنت أتفجر..!!
تلك البثور المزعجة على وجهي..جسدي الذي صار أعرض وأطول..شعري الذي يبدو أكثف في كل بقعة من جسدي..ومشاعري ومزاجي اللذان ضربا معاً في الخلاط فأنتجا عصيراً سيء الطعم عديم اللون..!
.
.
بعد عدة سنوات.. أشعر الآن أنني رسوت على شاطئ ما..
أن عصيري صار ألذ وألوانه أكثر تجانساً..أنني أستمتع بممارسة كل ما فاجئني ذات عمر عند بوابة الكبر.. أنني كبيرة بما يكفي بل وسعيدة بذلك..


بما يكفي لماذا؟ 
ربما لممارسة الحياة..والحب..والمرح..
ربما لوضع أحمر الشفاه وارتداء الأحذية ذات الكعب العالي والخروج معك في كل زيارة ومناسبة..
ربما لإبداء رأيي في موديلات ملابسك وصبغة شعرك ولون شراشف الأسرّة ونوع العجين لصنع سمبوسك رمضان.. وللجلوس بجوارك على الأريكة حتى وقت متأخر من الليل..
ربما أنا كبيرة بما يكفي لصنع وتجميع وإخفاء مزيداً من الأسرار والضحات المشاغبة..!!
ربما لرسم أحلام لها أجنحة..وطريق يؤدي لمستقبل قريب..وتجارب مدهشة أترقبها في كل انعطافة..نجاحات وإنجازات أتهيأ لأن أجرب طعمها..
.
.


أمي لا زلت أمارس عادتي في الوقوف على أطراف أصابعي.. هذه المرة -من بين ثنايا سور  حديقتي المزروعة بالورد الأحمر- أسترق النظر فأرى كثيراً من الألوان الصفراء والوردية والبنفسجية التي غدت ظلالها قريبة جداً..
.
.
 أرى أيضاً عن بعد مروجاً متسعة وبعييييدة تسد الأفق.. مكتظة باللون الأبيض فقط ..!!



الثلاثاء، 15 فبراير 2011

(٢) تهمة..؟

ما أعذب الطفولة..
ما أجملها..
ما أبرأها..
 ما أسهلها.. وما أقربها مني..بل وما أقربها حتى الأمس منك..!!
.
.
أيتها النصف كبيرة..
أيتها التي لم تعد صغيرة..

أخبريني بالله عليك..ماذا هذا الذي أعيشه معك الآن؟ هذا الجنون؟ هذا التوتر؟ هذا التذبذب؟ 
ماذا يسمى؟ وكيف أفهمه وأستوعبه وأتعامل معه؟ وأنا التي توقفت منذ فترة عن شراء كتب التربية أو حضور الدورات التي تساعد الأمهات الصغيرات صاحبات التجارب الأولى على فهم أطفالهن لظني أنني صرت أكثر خبرة وتجربة..وفهماً..
يالحماقتي إذن..!





ذلك اليوم حين اتصلت على صديقتي ردت علي ابنتها التي في مثل عمرك..سألتها عن والدتها ، فأجابت: هي غير موجودة الآن..تصدقين يا خالة أنها ذهبت إلى دورة" كيفية التعامل مع المراهقين"..يا الله ألهذه الدرجة؟


أجل يا فتاتي..



أجل..لهذه الدرجة!

أن تلجي هذا العالم كفتاة متهمة بممارسة خطوات النضج الأولى الغير متزنة يعد أسهل بكثير من أن تلجيه كأم بدأت تعيد رسم حدود خارطة سيطرتها الأمومية بل وتستعد لفقد أجزاء منها..

كلما دخلت عليك غرفتك وجدتها تسبح في بحر من الفوضى..كتب وأوراق في كل مكان..حقائب فارغة أو نصف ممتلئة..ملابس ملقاة على الأرض لا أعرف إن كانت نظيفة أم لا..ثوب صلاتك مكوم في طرف الغرفة ولست أثق متى آخر مرة استخدم..حذاء وفردة جورب متسخة..عباءة على السرير..كوب مملوء نصفه بالعصير يتناثر حوله فتات من البسكويت وأوراق فضية متسخة تضم بقايا لوح شوكولاته..

تستلقين على السرير بكسل صار معتادا، يمحور حياتك إما في السماعات التي تضعينها في أذنك لسماع موسيقاك الرديئة أو في جهاز اللاب توب الصغير حيث تتسكعين لساعات في الانترنت..أو في مكالمة طويلة مع إحدى صديقاتك..وحين تنضمين إلينا في غرفة الجلوس يكون التلفزيون هو شاغلك الأول..
أخبريني..لماذا صار أكثر المواضيع التي نتحدث فيها مواضيع تبدو أساسية ظننت أننا انتهينا منها كالنظافة والترتيب واستغلال الوقت فيما يفيد؟
لماذا علي أن أقطع أي نقاش كي أذكرك بضرورة أن تتمتعي بالأدب والتهذيب في نبرة صوتك ومحاولة توصيل وجهتك نظرك؟
لماذا علي أن أذكرك بضرورة أن تستحمي وأن لا تؤجلي هذه الفكرة ليوم آخر بحجة أنه "مافيك" أو "ما عندك وقت"..؟
تشاجرت معك ذلك اليوم كي تستحمي، حاولت أن لا أرفع صوتي لكنني أمام لا مبالاتك ومماطلتك خرجتُ غاضبة من غرفتك ، استلقيت على سريري وأنا أفكر.. 
هل يستحق الأمر كل هذا العناد؟
هل حقاً سبق وأن خطوت أنا عبر هذه البوابة قبلاً؟
إذن لماذا لا أذكر ذلك ؟ وأبدو كأنني لا أعرفها..؟
أذكر فقط بعض ملامحي الباهتة هناك، بعض تجاربي الأولى اللاذعة، وقليل من دهشاتي التي رسمت خطوط إدراكي..أذكر بالطبع صديقاتي..وصخبي..والهراء الذي كنت أكتبه في دفتر مذكراتي ..
لكني لا أذكر أمي..ولا أذكر مكانها في وسط عالمي ذاك..لا أذكر طول المسافة التي كانت بيننا بل إني لا أدري إن كانت قد دخلت معي من ذات البوابة..أم أنها وقفت تراقبني من بعيد..
شكوت ممارساتك الغريبة لجدتك وصوتي يمتلأ حنقاً فابتسمت بعتب وهي تقول : اصبري عليها يا ابنتي..
تقول ذلك بمنتهى البساطة مما يجعلني أشك- وهي التي ربت أربع فتيات- أن قد مرت عليها فتاة مثلك..!
كنت غارقة في أفكاري التي تحاول أن تعرف من فينا المتهم !!! لكنك قطعت عني حبل أفكاري بسكين قاطع حين دخلت علي وشعرك يتقاطر ماء..ورغم أن طولك قد قارب طولي إلا أنك اندسست بجواري على السرير ..
.
.
احتضنتني بصمت وقد تبلل نحري وتكبلت بك..
أخذت أفكر هذه المرة: هل هناك من هو متهم حقاً؟



لماذا أشعر دوماً وكأنني متهمة بتهمة خفية؟
لماذا يا أمي تصعبين الأمور علي وعليك وتلتفين لأشياء صغيرة وتافهة لن تؤثر على سير الحياة أبداً كمواعيد الإستحمام وترتيب دولاب ملابسي الخاص وتمشيط شعري؟
أليست غرفتي..هي غرفتي؟
أليس من حقي أن أمارس فيها ما أريد؟ ماذا يعني إذن إن كان مريولي ملقى على الأرض وأنا سأعود لارتدائه في اليوم التالي؟ أو إن كان ثوب صلاتي غير مطوي وأنا سأستخدمه خمس مرات في اليوم؟ أو إن كانت أدراجي غير مرتبة رغم أنني أعرف تماماً مكان كل شيء أحتاجه؟
أنت لا تفهمينني يا أمي..تقولين لي دوماً أنني كبرت ثم تعودين لرسم حدود حياتي وشكلها ضمن قوانينك الصارمة..تقولين لي أنني نضجت ثم لا تتركينني أختار ملابسي أو حتى طريقة تصفيف شعري بنفسي..تقولين أنني مسئولة عن إخوتي الصغار ثم تغضبين مني إن تشاجرت معهم لأنهم لم يستمعوا إلى كلامي..


لا أحد يفهمني في هذه الحياة..وربما أيضا..لا أحد يحبني في البيت..
أتذكرين ذلك اليوم ، جن جنوني حين كنت أبحث عن سماعات الأذن الخاصة بي في كل مكان..أنت لا تحبين صوت الموسيقى العالي والصاخب لذا كان الحل بالنسبة لي هذه السماعات لسماع ما أريد بالعلو الذي يرضيني، رغم ذلك لم أكن أجدها..حين سألتك عنها قلت لي بصوت بارد: أجل ،أعرف أين هي، ألا ترين أنني قد حذرتك مئة مرة من ترك أشيائك ملقاة في كل مكان، وقد وجدت سماعاتك ملقاة بإهمال على أرض غرفة الجلوس فأخذتها وستبحثين عنها بنفسك..أنا لن أعيدها لك..
بالله عليك يا أمي..أشعر كأنني طفلة صغيرة ألعب استغماية مع سماعاتي..لماذا لا تخبريني أين هي وانتهى الأمر..
هل يستحق الأمر كل هذا العناء؟
هل أستحق هذه المعاملة؟


تعبت من البحث..وتعبت من إصرارك المتواصل علي بأن أستحم... 
بردت المياه رأسي الذي كان يغلي غضباً وحيرة..وفتك الحزن بقلبي الذي تحول على صفحات دفتري إلى كلمات ودموع..
تصدقين يا أمي..
رغم أن هناك شيئا لا أفهمه يجري إلا أنني أشعر أحياناً أنني أشتاق سريرك..أشتاق أحضانك..أشتاق أن تعاملينني كطفلة لا بأس أحياناً أن تخطئ وتلقي أشيائها بإهمال بل و تحتاج لمن يقنعها بأن تستحم..!!


حتى مع انزعاجك من شعري الطويل الذي ينشر البلل حوله..قررت أن أعيش للحظات في أحضانك بلا أية تهمة..!


الأربعاء، 9 فبراير 2011

(١) بل..تتبعثر الأعمار..!!

على شاطئ البحر..كان الجو غائماً على عادة جدة هذه الأيام..
العائلة كلها مجتمعة..تحتفل بالغيمات الشاردات التي تاهت في السماء.. 
جدتك تعتني بأحفادها الصغار وتلعب معهم بالرمل..جدك يتأمل المنظر..وأنت تتسكعين مع خالاتك حافيات على الشاطئ..
كنت أمشي وحدي حتى وجدت أرجوحة خشبية قديمة ذات حبال متينة منصوبة بالقرب من البحر..مرتفعة.. مغرية.. متواطئة مع صوت الموج الذى يضرب شطئان الذاكرة والذي لا قبل لي على مقاومته..
أثناء تأملي سمعت صوت جدك من خلفي يقول: هيا..أصعدي..وسأدفعك..
ابتسمت..خلعت حذائي وجلست على الأرجوحة الخشبية وبدأ جدك يدفعني..
كان يدفعني بقوة..قلت له من بين ضحكاتي: سأطير يا أبي وسأسقط في البحر ..قال لي: ما أروع ذلك إذن..!
جئتِ راكضة وأنت تقولين ضاحكة: جدي جدي بشويش..سأؤلف أنا هذه المرة كتاباً بعنوان: على الأرجوحة تتبعثر أمي..
قلت ذلك وأنت تتشاكسين مع جدك ليوقف الأرجوحة كي تركبي أنت..فجدك كما تقولين : فنان في الدفع على الأراجيح مهما كان وزن الراكب..
.
.
ها أنت تمارسين من جديد عادتك القديمة..
تطلقين تعليقاً كإشارة من فنار ثم تتركينني أبحر في أعماقي تائهة بدون سارية..!
أتناثرتْ أسرار أمك على الأرجوحة حقاً وحين رفضتْ النزول بدأ عمرها يتبعثر أيضاً..؟!
ألا تقف هذه الأرجوحة أبداً؟ ألا تهدأ قليلاً..؟
ألا ترى أن سنواتي تمر أسرع مما ينبغي..أن شعري يطول بأكثر مما أريد ..وأن آيسكريمي يذوب حتى قبل أن أشتهيه؟

ألا تشعر أن تأرجحي صار أثقل..وأقدامي غدت أطول؟ 
وأن تجاربي تراكمت علي حتى فقدتُ حنجرتي التي كانت تصرخ..ونسيتُ إحساس دغدغة البطن الذي كان يضحكني..







من قال أنه على الأرجوحة تتناثر الأسرار فقط؟






من قال أن الأسرار لا تنتهي والصفحات لا تمتلئ؟
من قال أن الأبواب تبقى دائماً مواربة؟ والمقابض لا تغلقها المفاتيح؟

أجل يا ابنتي ..أجل..
على الأرجوحة..تتبعثر الأعمار أيضاً!!!

نزلت من عن الأرجوحة، فركبتِ أنتِ وبدأ جدك يدفعك بقوة كما تحبين وسط صراخك وضحكاتك..
نظرتُ إلى الآثار التي حفرتها أقدامي تحت الأرجوحة..
أقدامك التي بالكاد تصل إلى التراب ..خطّت فوق آثار أقدامي خطوطاً أخرى ... وإن كانت باهتة.. !





ياااالله..
أتذكرين يا أمي؟
أتذكرين؟
بالطبع لا تذكرين..فأنت لم تكوني معي وقتها..
أنا أتذكر.. مع أنني كنت في الرابعة فقط..
ذهبت مع أبي إلى الكورنيش كي آكل آيسكريم أبو ريالين..اشتري لي أبي الآيسكريم ثم أوقف السيارة وأخذني إلى أرجوحة على الشاطئ كانت الوحيدة التي لم يكن يجلس عليها أحد..
.
.
لم أعبأ بالصدأ الذي اعتلاها وطلبت من أبي أن يدفعني..
بقوة..
بقوة أكثر..
وأكثر..
.
.
ثم .. سقطت على الرمل..وشعرت بالألم في وجهي وفي ركبتي..
رفعت رأسي أبحث عن أبي لكني لم أكن أبكي..هل تصدقين ذلك؟
أخذ أبي يلاطفني ويمسح عني الرمل وأنا أصر أن أعتلي الأرجوحة مرة ثانية..
صمت أمام إصراري رغم ركبتي التي كانت مجروحة..
بدأت الشمس في المغيب وعبثاً كان يحاول أبي أن ينزلني حتى يلحق بصلاة المغرب وحتى نعطي فرصة للفتاة التي كانت تحوم حولي تنتظر نزولي..
حين نزلت نظرت إليها شذراً..وذهبت إلى المنزل وقلبي لا يزال هناك على الأرجوحة..
انظري إلي اليوم..ركضت نحوك وشيء ما يشدني إلى هذا المكان..وتلك المساحة ..وذلك الارتفاع..
ركضت نحوك وأنا أتسائل ، ترى.. هل تستمتع أمي بركوب الأرجوحة مثلي؟ أم أنها غدت تؤثر السلامة على شهوة التحليق؟
صحيح أنني لم أعد طفلة ، ولكني أعلم أنني كلما تأرجحت تركت جزءاً أو ربما سراً مني معلق على حبالها رغم ركبتي المجروحة..
اليوم ، كان جدي الذي يدفعني..ولا زال ذات الإحساس القديم بالقدرة على الطيران ولمس السحاب يراودني..
.
.
أخبريني يا أمي...
حين أكبر هل ستنجرح ركبتي أو ربما قلبي هذه المرة ؟
هل سيمنعني التأرجح في حياتي ما بين نشوة الصعود وخيبة الهبوط من نثر أسراري عن يمين العمر وشمال السنوات؟
هل ستنغرز قدماي الطويلتان في الرمال..فتصمتني وتمنع حياتي من هدهدتي ؟
هل ستكونين دائماً خلفي كي تدفعينني إذا ما أثقلتني الحياة وعجزت عن التحليق؟
.
.
نزلت من الأرجوحة مرغمة كدائماً، بعد أن قال جدي أن دوري قد انتهى رغم عدم وجود فتاة صغيرة في الجوار تنتظر دورها..
نظرت خلفي..وجدت هذه المرة أن جدي قد اعتلى كرسي الأرجوحة الخشبي ..!!!!!