الجمعة، 25 مارس 2011

(٣) بياض الثلج وحمرة الورد..

كنتُ غارقة في كتابة تقرير يخص العمل حين مررت من أمامي..ثم تراجعت و عدت إلي مرة أخرى تنظرين باهتمام ، وأمام وقوفك وتحديقك توقفت عما كنت أفعله، رفعت رأسي ونظرت إليك مستفهمة..فقلت لي: ماما ، ربما حان الوقت لتصبغي شعرك مرة ثانية..!
اتبعت ذلك بابتسمة حلوة وبجسد ألقيته على الأريكة بجواري في استرخاء.. قمت مسرعة..فصرخت: ماما ، أين تذهبين؟ جئت لأجلس معك..قلت لك: أصلي المغرب وأعود..!!!
دخلت إلى غرفتي وأغلقت الباب كطفلة فزعة تهرب من شيء ما..!
هذا الشيء يلاحقني أينما ذهبت..أينما اختبأت..أينما وليت وجهي..إنه حولي ومعي وأمامي في كل مكان..
إنه في صمت شعيرات بيضاء تسبح في بحر شعري الفاحم..إنه على ضفاف سنواتي الأربعين التي أغرقت مركبي..إنه في عمرك حين خلعت عنك طفولتك البرىئة وخلعت عني رداء الأم الأكثر براءة.. إنه في صوري القديمة الباهتة التي تبدو من جيل بعيد لا يمت للعصر الحاضر بصلة..

...
هل ألوم الصبغة الرديئة التي يختفي أثرها قبل أن ألحظ؟ أم ألوم تسارع تكنولوجيا العصر والتي جعلت من جيل السبعينات جيلاً من الزمن الضائع؟ ربما علي أن أعتب على السنوات التي نست طولها المفترض، وغدت تمر علينا تسابق الشهور والأيام...!
ربما ألومك أنت..!
أجل أنت..
ألم أخبرك ذات طفولة عذبة ألا تكبري..ألم تضحكي وتقولي لي: كيف لا أكبر؟
 لا أستطيع أن أتوقف؟
قلت لك: من يستطيع إذن؟ فقلت لي بحكمة سنواتك الست: لا أحد يقدر..!
احتضنتك وأنا أسمّي عليك وأقول في نفسي: معها حق..طالما أننا أحياء نتنفس..فلا أحد يقدر! 
ها أنا أتنفس إذن سنواتي الأربعين وشعيراتي البيضاء وذكرياتي الكثيرة بكل جزع ومشاعر مختلطة وحكمة مزيفة أحاول أن أتباهى بها..
.
.
لم يكن مرور السنوات يعنيني في شيء..بل- ويا للعجب- كان يمر يوم عيد ميلادي دون أن آبه به.لا هدية من حبيب، لا أمنية جميلة من صديق، ولا توقف من أي نوع، ولم يكن ذلك يزعجني فقد كنت مشغولة بكثير من الأشياء حتى أنني ذات عام أصبت بالحيرة هل أنا في السادسة والعشرين أم في الخامسة والعشرين..!
هل كان ذلك مهماً حقاً كما هو الآن؟ هل كنت أحرص على كريم الصباح والمساء وأراقب تغيرات جسدي بقلق وأبحلق في الخطوط الرقيقة التي ظهرت حول عيني وشفتي في المرآة محاولة إخفائها...؟
أنظري إليك..تلجين الحياة وتقفزين..وتحاولين أن تخطي بدلاً من الخطوة خطوتين..
تمهلي..تمهلي..لا تستعجلي ولا تزاحمينني في عمري ، الآن يراودك عمرك عن نفسك لكنه مستقبلاً سيأخذك علي حين غرة وستندمين حين تشعرين أن ثمة زقاق في عمرك لم تطئيه و "راح عليك"..
انظري..أنا أفسح لك مكانك في عمرينا وأحتفي بك فيه كما ينبغي..الفساتين القصيرة الملونة الضاحكة لك ولي كل ماهو أنيق وراق..أحمر الشفاه الفاقع لك ولي درجات البني والوردي الغامق..الجينز الضيق لك ولي الجينز الذي لا يظهر كثيراً من انحناءات جسدي...المروج ذات الورد الأحمر الفتان في عزّ الربيع لك..ولي البيوت التي كساها الثلج الأبيض في أمسيات الشتاء الهادئة..!
لست حزينة على ما ذهب فلم يفتني شيء لم أتجرعه ولكني جزعة من بدأ زحف هذا الأبيض! ..من كل هذا الكم من الذكريات ، والحكايات، والأيام والسنوات التي أنوء بها..
كيف أنظر للمستقبل ؟ كمسرح ستسدل أستاره بعد برهة..؟
وكيف تنظرين للمستقبل؟ كمسرح ستفتح أستاره بعد قليل...؟

تتغير المشاهد يا حلوتي .. يتغير النص والممثلين.. يتغير الجمهور والمصفقين.. إلا أن مواعيد العرض. ومرور العمر.. دائماً واحد..! 






أتذكرين يا ماما حين كنت صغيرة وحين كنت أريد أن أكبر عامين في العام؟
حسناً ،،علي أن أخبرك أن ذلك "الكبر " فاجئني جداً...بطريقة أربكتني..
منذ الثالثة عشرة صار علي أن أرتدي حمالة الصدر بشكل لا يقبل الجدال وكنت أخجل كثيراً حين تظهر سيورها من تحت ملابسي..
صار مقاس حذائي كمقاس حذائك مما كان يسبب لي كثيراً من إحراج ..فأتعنى أن لا أضع حذائي بجوار حذائك في أي مكان..فأنت أم وأنا ابنتك فكيف بالله يكون مقاسنا واحد؟؟!!
البلوزة التي كنت سعيدة بها للغاية صارت ضيقة بعد شهرين فقط من شرائي لها.. والجينز كنت أصر على شراء أكبر مقاس من قسم الأطفال رغم اختناقي حين أرتديه ورغم أنك اقترحت علي عدة مرات أن تشتري لي أصغر مقاس من القسم النسائي..
لم أكن أكبر يا أمي..بل كنت أتفجر..!!
تلك البثور المزعجة على وجهي..جسدي الذي صار أعرض وأطول..شعري الذي يبدو أكثف في كل بقعة من جسدي..ومشاعري ومزاجي اللذان ضربا معاً في الخلاط فأنتجا عصيراً سيء الطعم عديم اللون..!
.
.
بعد عدة سنوات.. أشعر الآن أنني رسوت على شاطئ ما..
أن عصيري صار ألذ وألوانه أكثر تجانساً..أنني أستمتع بممارسة كل ما فاجئني ذات عمر عند بوابة الكبر.. أنني كبيرة بما يكفي بل وسعيدة بذلك..


بما يكفي لماذا؟ 
ربما لممارسة الحياة..والحب..والمرح..
ربما لوضع أحمر الشفاه وارتداء الأحذية ذات الكعب العالي والخروج معك في كل زيارة ومناسبة..
ربما لإبداء رأيي في موديلات ملابسك وصبغة شعرك ولون شراشف الأسرّة ونوع العجين لصنع سمبوسك رمضان.. وللجلوس بجوارك على الأريكة حتى وقت متأخر من الليل..
ربما أنا كبيرة بما يكفي لصنع وتجميع وإخفاء مزيداً من الأسرار والضحات المشاغبة..!!
ربما لرسم أحلام لها أجنحة..وطريق يؤدي لمستقبل قريب..وتجارب مدهشة أترقبها في كل انعطافة..نجاحات وإنجازات أتهيأ لأن أجرب طعمها..
.
.


أمي لا زلت أمارس عادتي في الوقوف على أطراف أصابعي.. هذه المرة -من بين ثنايا سور  حديقتي المزروعة بالورد الأحمر- أسترق النظر فأرى كثيراً من الألوان الصفراء والوردية والبنفسجية التي غدت ظلالها قريبة جداً..
.
.
 أرى أيضاً عن بعد مروجاً متسعة وبعييييدة تسد الأفق.. مكتظة باللون الأبيض فقط ..!!