الأربعاء، 9 فبراير 2011

(١) بل..تتبعثر الأعمار..!!

على شاطئ البحر..كان الجو غائماً على عادة جدة هذه الأيام..
العائلة كلها مجتمعة..تحتفل بالغيمات الشاردات التي تاهت في السماء.. 
جدتك تعتني بأحفادها الصغار وتلعب معهم بالرمل..جدك يتأمل المنظر..وأنت تتسكعين مع خالاتك حافيات على الشاطئ..
كنت أمشي وحدي حتى وجدت أرجوحة خشبية قديمة ذات حبال متينة منصوبة بالقرب من البحر..مرتفعة.. مغرية.. متواطئة مع صوت الموج الذى يضرب شطئان الذاكرة والذي لا قبل لي على مقاومته..
أثناء تأملي سمعت صوت جدك من خلفي يقول: هيا..أصعدي..وسأدفعك..
ابتسمت..خلعت حذائي وجلست على الأرجوحة الخشبية وبدأ جدك يدفعني..
كان يدفعني بقوة..قلت له من بين ضحكاتي: سأطير يا أبي وسأسقط في البحر ..قال لي: ما أروع ذلك إذن..!
جئتِ راكضة وأنت تقولين ضاحكة: جدي جدي بشويش..سأؤلف أنا هذه المرة كتاباً بعنوان: على الأرجوحة تتبعثر أمي..
قلت ذلك وأنت تتشاكسين مع جدك ليوقف الأرجوحة كي تركبي أنت..فجدك كما تقولين : فنان في الدفع على الأراجيح مهما كان وزن الراكب..
.
.
ها أنت تمارسين من جديد عادتك القديمة..
تطلقين تعليقاً كإشارة من فنار ثم تتركينني أبحر في أعماقي تائهة بدون سارية..!
أتناثرتْ أسرار أمك على الأرجوحة حقاً وحين رفضتْ النزول بدأ عمرها يتبعثر أيضاً..؟!
ألا تقف هذه الأرجوحة أبداً؟ ألا تهدأ قليلاً..؟
ألا ترى أن سنواتي تمر أسرع مما ينبغي..أن شعري يطول بأكثر مما أريد ..وأن آيسكريمي يذوب حتى قبل أن أشتهيه؟

ألا تشعر أن تأرجحي صار أثقل..وأقدامي غدت أطول؟ 
وأن تجاربي تراكمت علي حتى فقدتُ حنجرتي التي كانت تصرخ..ونسيتُ إحساس دغدغة البطن الذي كان يضحكني..







من قال أنه على الأرجوحة تتناثر الأسرار فقط؟






من قال أن الأسرار لا تنتهي والصفحات لا تمتلئ؟
من قال أن الأبواب تبقى دائماً مواربة؟ والمقابض لا تغلقها المفاتيح؟

أجل يا ابنتي ..أجل..
على الأرجوحة..تتبعثر الأعمار أيضاً!!!

نزلت من عن الأرجوحة، فركبتِ أنتِ وبدأ جدك يدفعك بقوة كما تحبين وسط صراخك وضحكاتك..
نظرتُ إلى الآثار التي حفرتها أقدامي تحت الأرجوحة..
أقدامك التي بالكاد تصل إلى التراب ..خطّت فوق آثار أقدامي خطوطاً أخرى ... وإن كانت باهتة.. !





ياااالله..
أتذكرين يا أمي؟
أتذكرين؟
بالطبع لا تذكرين..فأنت لم تكوني معي وقتها..
أنا أتذكر.. مع أنني كنت في الرابعة فقط..
ذهبت مع أبي إلى الكورنيش كي آكل آيسكريم أبو ريالين..اشتري لي أبي الآيسكريم ثم أوقف السيارة وأخذني إلى أرجوحة على الشاطئ كانت الوحيدة التي لم يكن يجلس عليها أحد..
.
.
لم أعبأ بالصدأ الذي اعتلاها وطلبت من أبي أن يدفعني..
بقوة..
بقوة أكثر..
وأكثر..
.
.
ثم .. سقطت على الرمل..وشعرت بالألم في وجهي وفي ركبتي..
رفعت رأسي أبحث عن أبي لكني لم أكن أبكي..هل تصدقين ذلك؟
أخذ أبي يلاطفني ويمسح عني الرمل وأنا أصر أن أعتلي الأرجوحة مرة ثانية..
صمت أمام إصراري رغم ركبتي التي كانت مجروحة..
بدأت الشمس في المغيب وعبثاً كان يحاول أبي أن ينزلني حتى يلحق بصلاة المغرب وحتى نعطي فرصة للفتاة التي كانت تحوم حولي تنتظر نزولي..
حين نزلت نظرت إليها شذراً..وذهبت إلى المنزل وقلبي لا يزال هناك على الأرجوحة..
انظري إلي اليوم..ركضت نحوك وشيء ما يشدني إلى هذا المكان..وتلك المساحة ..وذلك الارتفاع..
ركضت نحوك وأنا أتسائل ، ترى.. هل تستمتع أمي بركوب الأرجوحة مثلي؟ أم أنها غدت تؤثر السلامة على شهوة التحليق؟
صحيح أنني لم أعد طفلة ، ولكني أعلم أنني كلما تأرجحت تركت جزءاً أو ربما سراً مني معلق على حبالها رغم ركبتي المجروحة..
اليوم ، كان جدي الذي يدفعني..ولا زال ذات الإحساس القديم بالقدرة على الطيران ولمس السحاب يراودني..
.
.
أخبريني يا أمي...
حين أكبر هل ستنجرح ركبتي أو ربما قلبي هذه المرة ؟
هل سيمنعني التأرجح في حياتي ما بين نشوة الصعود وخيبة الهبوط من نثر أسراري عن يمين العمر وشمال السنوات؟
هل ستنغرز قدماي الطويلتان في الرمال..فتصمتني وتمنع حياتي من هدهدتي ؟
هل ستكونين دائماً خلفي كي تدفعينني إذا ما أثقلتني الحياة وعجزت عن التحليق؟
.
.
نزلت من الأرجوحة مرغمة كدائماً، بعد أن قال جدي أن دوري قد انتهى رغم عدم وجود فتاة صغيرة في الجوار تنتظر دورها..
نظرت خلفي..وجدت هذه المرة أن جدي قد اعتلى كرسي الأرجوحة الخشبي ..!!!!!

هناك تعليقان (2):